الاقتصاد الإسرائيلي في خطر- حرب غزة تفاقم أزمة مالية تهدد مستقبل الدولة

المؤلف: نبيل أرملي10.15.2025
الاقتصاد الإسرائيلي في خطر- حرب غزة تفاقم أزمة مالية تهدد مستقبل الدولة

لقد خلّفت عملية "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وما أعقبها من حرب شاملة شنّتها إسرائيل، إثر شعورها بتهديد وجودي حقيقي هو الأول من نوعه منذ تأسيسها قبل 75 عامًا، خسائر اقتصادية فادحة للاقتصاد الإسرائيلي، تُعد الأكبر في تاريخه، ولا تزال هذه الخسائر تتفاقم.

على النقيض من المشهد السياسي، حيث يواصل نتنياهو وأذرعه الإعلامية الترويج لـ "النصر المطلق" الذي يزعمون أنه بات وشيكًا، وأن حركة حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية على أعتاب الانهيار في كل لحظة، وأن عودة الأسرى باتت قريبة بفضل العمليات العسكرية، فإن الواقع الاقتصادي في إسرائيل يكشف زيف هذه الادعاءات.

فالاقتصاد يعتمد على الأرقام والإحصائيات والبيانات الدقيقة، ولا يستطيع حتى "الساحر"، كما يحلو لأنصار نتنياهو تسميته، أن يزيّف الصورة القاتمة للواقع المالي والاقتصادي الذي تعيشه إسرائيل منذ اندلاع الحرب وحتى يومنا هذا.

ملامح الواقع

إذًا، كيف يتجلى هذا الواقع المرير؟

ربما ليس بالصورة القاتمة التي يتخيلها البعض. فالوضع الاقتصادي في إسرائيل سيئ للغاية، لكنه قد يُعتبر مقبولًا بالنظر إلى أنها دولة تخوض حربًا ضروسًا على جبهات متعددة منذ ما يقارب العام.

يمكن تلخيص التكلفة الاقتصادية للحرب التي تخوضها إسرائيل في غزة وغيرها من الجبهات بالتكاليف الاقتصادية المباشرة وغير المباشرة، والتي من المتوقع أن تصل إلى نحو 70 مليار دولار بحلول عام 2025، وفقًا للتقديرات الرسمية. هذا المبلغ يعادل حوالي 13% من الناتج المحلي الإجمالي السنوي للاقتصاد الإسرائيلي، ويتجاوز 50% من ميزانية الدولة لعام 2023.

تتضمن هذه التكلفة الباهظة نفقات القتال المباشرة، مثل الزيادة الهائلة في ميزانية وزارة الدفاع للتسلح وشراء الذخائر، بالإضافة إلى مدفوعات جنود الاحتياط. كما تشمل الخسائر المادية الفادحة التي لحقت بالبلدات والمدن في مناطق الجنوب والشمال، وتكلفة نزوح أكثر من 150 ألف مواطن من منازلهم، والشلل التام الذي أصاب قطاع السياحة الحيوي، والركود الذي خيّم على قطاعات البناء والتشييد والزراعة نتيجة لنقص حاد في الأيدي العاملة، وتضرر الإنتاج الاقتصادي بسبب استدعاء عشرات الآلاف من جنود الاحتياط، والانخفاض الحاد في الاستثمارات الأجنبية، خاصة في قطاع التكنولوجيا المتقدمة (الهايتك)، وتدهور الصادرات والواردات، وغيرها من التكاليف والخسائر المتراكمة.

وعلى الرغم من كل هذه التحديات الجسيمة، فقد أظهر الاقتصاد الإسرائيلي قدرة على الصمود في وجه هذه التحولات العنيفة. وهذا الصمود يتجسد في ثبات سعر صرف الشيكل نسبيًا مقابل العملات الرئيسية، وبقاء معدلات البطالة عند مستوياتها المنخفضة التي كانت سائدة قبل الحرب، والحفاظ على مستويات تضخم مالي معقولة، ومتانة الجهاز المصرفي الإسرائيلي، وزيادة في الإيرادات الضريبية، وتوقعات بتحقيق معدلات نمو اقتصادي تصل إلى 1.9% في عام 2024 و4.6% في عام 2025.

ليس هنا المجال للخوض في تفاصيل أسباب هذا الصمود الظاهري للاقتصاد الإسرائيلي، ولكن يمكن القول بشكل عام إن إسرائيل دخلت هذه الحرب وهي تمتلك اقتصادًا قويًا ومتينًا نسبيًا، الأمر الذي يمنحها "النفس" اللازم للتعامل مع المخاطر والتحديات الأمنية والجيوسياسية التي تحيط بها من كل جانب.

حرب في أروقة الوزارة

ومع ذلك، يرى العديد من المحللين الاقتصاديين في إسرائيل أن التحدي الاقتصادي يمثل التحدي الأكبر والأخطر الذي يواجه الدولة في الوقت الراهن، وأن السياسات التي ينتهجها نتنياهو ووزير ماليته المتطرف، بتسلئيل سموتريتش، تهدد الاستقرار الاقتصادي لإسرائيل وتدفعها نحو حافة الانهيار المالي بوتيرة متسارعة.

وتشير التسريبات المتواترة إلى وجود صراع حاد يدور رحاه في أروقة وزارة المالية وبنك إسرائيل بين كبار الموظفين من جهة، والمستوى السياسي من جهة أخرى، وذلك على خلفية السياسات الاقتصادية الطائشة التي يتبناها سموتريتش، وتجاهله التام لآراء المختصين في الوزارة الذين يحذرونه من العواقب الوخيمة لهذه السياسات العبثية.

من حيث المبدأ، لا يرى سموتريتش أي مشكلة في تعميق العجز المتفاقم في ميزانية الدولة، وفي تمويل هذا العجز من خلال الاقتراض المتزايد من الأسواق المحلية والعالمية، وفي تبني حلول شعبوية غير واقعية للتعامل مع الأزمة الراهنة.

بيدَ أن خبراء الاقتصاد وجهات اقتصادية مركزية أخرى، وعلى رأسها بنك إسرائيل، يرون أنه لا مفر أمام الحكومة من اتخاذ قرارات اقتصادية ومالية صعبة ومؤلمة لتجنب الوقوع في أزمة اقتصادية مماثلة لتلك التي عصفت بالاقتصاد الإسرائيلي بعد حرب أكتوبر/تشرين الأول عام 1973.

بالنسبة لبنك إسرائيل، فإن الخطوة العاجلة التي يجب على الحكومة اتخاذها هي كبح جماح العجز المتزايد في الميزانية، والسيطرة على الدين العام المتضخم من خلال خفض الإنفاق الحكومي، ورفع الضرائب، وتقييد مدفوعات الضمان الاجتماعي، واتخاذ إجراءات تقشفية أخرى مماثلة.

ووفقًا لتقديرات أمير يارون، محافظ البنك المركزي الإسرائيلي، فإن عدم تنفيذ الحكومة لهذه الإجراءات الضرورية سيؤدي إلى ارتفاع نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي لتتراوح بين 75% و81%، الأمر الذي سيؤثر سلبًا على مكانة الاقتصاد الإسرائيلي في الأسواق العالمية، أو بمعنى آخر سترتفع تكلفة الاقتراض بشكل كبير.

خياران أحلاهما مرّ

يواجه نتنياهو في الوقت الحالي خيارين اقتصاديين كلاهما مرّ.

  • الخيار الأول، وهو الأسهل على المدى القصير، يتمثل في الاستمرار في تبني سياسات مالية واقتصادية متراخية وشعبوية لا تثير غضب قاعدته الشعبية ولا تهدد بقاءه في السلطة. لكن هذا المسار سيؤدي حتمًا إلى دخول الاقتصاد الإسرائيلي في دوامة من التضخم والركود، ويهدد استقراره ومكانته في الأسواق العالمية على المديين المتوسط والبعيد، ويؤدي إلى تراجع كبير في جاذبية الاستثمار في القطاعات الاقتصادية الإسرائيلية، وعلى رأسها قطاعات التكنولوجيا المتقدمة والصناعات المتطورة التي تعتمد بشكل كبير على الاستثمارات الأجنبية.

وتفيد شخصيات اقتصادية بارزة في إسرائيل بأن هذا السيناريو الكارثي قد يتحقق في فترة قصيرة، أي خلال فترة حكم نتنياهو، وأن تأثيراته على مستوى المعيشة في إسرائيل ستكون قاسية وغير مسبوقة، وسيدرك الجمهور الإسرائيلي أن نتنياهو هو المسؤول الأول عن هذا التدهور.

  • الخيار الثاني، الذي يعتبره الخبراء والمسؤولون في وزارة المالية وبنك إسرائيل الحل الأمثل والضروري، يكمن في أن يأمر نتنياهو وزير ماليته بتنفيذ اقتطاعات حادة في ميزانية الدولة للعام المقبل (بقيمة 8 مليارات دولار تقريبًا)، ورفع الضرائب على مختلف أنواعها، وتقليص مدفوعات الضمان الاجتماعي المختلفة.
    وبالطبع، ستتحمل الطبقات الفقيرة والمتوسطة الدخل، التي تشكل القاعدة الشعبية لليمين الإسرائيلي ولنتنياهو بالذات، العبء الأكبر من هذه الإجراءات التقشفية المؤلمة. ولكن هذا القرار يتطلب موافقة أحزاب الائتلاف الحكومي التي لن تكون مستعدة للتضحية بقاعدتها الشعبية لإنقاذ اقتصاد تل أبيب، حتى لو أمرها نتنياهو بذلك.

إذًا، كلا الخيارين يهددان بقاء نتنياهو السياسي، ولكن الفرق بينهما يكمن في التوقيت. فهل سيختار نتنياهو مصلحة الدولة على حساب استياء جمهور اليمين الذي نصّبه "ملكًا" على إسرائيل، أم أنه سيشتري رضا هذا الجمهور في الوقت الحاضر على حساب المخاطرة بمستقبل اقتصاد الدولة لأجيال قادمة؟

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة